فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} الِاضْطِرَارُ هُوَ دَفْعُ الْإِنْسَانِ إِلَى مَا يَضُرُّهُ وَحَمْلُهُ عَلَيْهِ أَوْ إِلْجَاؤُهُ إِلَيْهِ؛ فَهُوَ صِيغَةُ افْتِعَالٍ مِنَ الضَّرَرِ، وَأَصْلُ مَعْنَاهُ: الضِّيقُ، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ تَدُلُّ عَلَى التَّكَلُّفِ، فَالِاضْطِرَارُ تَكَلُّفُ مَا يَضُرُّ بِمُلْجِئٍ يُلْجِئُ إِلَيْهِ، وَالْمُلْجِئُ إِلَى ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَحِينَئِذٍ لابد أَنْ يَكُونَ ضَرَرًا حَاصِلًا أَوْ مُتَوَقَّعًا يُلْجِئُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ بِمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ، عَمَلًا بِقَاعِدَةِ: «ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ» الثَّابِتَةِ عَقْلًا وَطَبْعًا وَشَرْعًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ نَفْسِهِ؛ كَإِكْرَاهِ بَعْضِ الْأَقْوِيَاءِ بَعْضَ الضُّعَفَاءِ عَلَى مَا يَضُرُّهُمْ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} (2: 126) وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَالضَّرَرُ الْمُلْجِئُ فِيهِ هُوَ: الْمَخْمَصَةُ، أَيِ الْمَجَاعَةُ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ خَمْصِ الْبَطْنِ، أَيْ ضُمُورِهِ لِفَقْدِ الطَّعَامِ، فَالْجُوعُ ضَرَرٌ يَدْفَعُ الْإِنْسَانَ إِلَى تَكَلُّفِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَإِنْ كَانَ يَعَافُهَا طَبْعًا وَيَتَضَرَّرُ بِهَا لَوْ تَكَلَّفَ أَكْلَهَا فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِهَا عِلَّةٌ أَمْ لَا، وَقَدْ وَافَقَ الشَّرْعُ الْفِطْرَةَ فَأَبَاحَ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَلَا يُبِيحُ ذَلِكَ أَيُّ جُوعٍ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ، وَلَا الْجُوعُ الشَّدِيدُ مُطْلَقًا، بَلِ الْجُوعُ الَّذِي لَا يَجِدُ مَعَهُ الْجَائِعُ شَيْئًا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ إِلَّا الْمُحَرَّمَ مِمَّا ذُكِرَ. يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: فِي مَخْمَصَةٍ أَيْ: فَمَنِ اضْطُرَّ فَأَكَلَ مِمَّا ذُكِرَ حَالَ كَوْنِهِ فِي مَجَاعَةٍ مُحِيطَةٍ بِهِ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ، لَا يَجِدُ مَنْفَذًا مِنْهَا إِلَّا مَا ذُكِرَ، وَحَالَ كَوْنِهِ: غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ أَيْ: غَيْرَ جَائِرٍ فِيهِ أَوْ مُتَمَايِلٍ إِلَيْهِ مُتَعَمِّدٍ لَهُ، فَالْجَنَفُ: الْمَيْلُ وَالْجَوْرُ، وَيَصْدُقُ بِالْمَيْلِ إِلَى الْأَكْلِ ابْتِدَاءً، وَبِالْجَوْرِ فِيهِ بِأَكْلِ الْكَثِيرِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فِي آيَتَيِ الْأَنْعَامِ وَالنَّحْلِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} (6: 145) أَيْ غَيْرَ طَالِبٍ لَهُ وَلَا مُتَعَدٍّ وَمُتَجَاوِزٍ قَدْرَ الضَّرُورَةِ فِيهِ؛ فَعِبَارَةُ سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَوْجَزُ، وَإِنَّمَا اشْتُرِطَ هَذَا لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لِلضَّرُورَةِ، فَيُشْتَرَطُ تَحَقُّقُهَا أَوَّلًا وَكَوْنُهَا هِيَ الْحَامِلَ عَلَى الْأَكْلِ، وَأَنْ تُقَدَّرَ بِقَدْرِهَا، فَيَأْكُلُ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ لَا يَعْدُوهُ إِلَى الشِّبَعِ، وَهَذَا الشَّرْطُ مَعْقُولٌ فِي حُكْمِ الضَّرُورَاتِ، فَهُوَ نَافِعٌ لِلْمُضْطَرِّ أَدَبًا وَطَبْعًا؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ أَنْ يَتَجَرَّأَ عَلَى تَعَوُّدِ مَا فِيهِ مَهَانَةٌ لَهُ وَضَرَرٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُضْطَرَّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ، أَوْ يَخْتَارُ أَقَلَّهَا ضَرَرًا، وَقَدْ يَكُونُ أَشْهَاهَا إِلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ، فَأَكَلَ مِنْهُ فِي مَجَاعَةٍ لَا يَجِدُ فِيهَا غَيْرَهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَائِلٍ إِلَيْهِ لِذَاتِهِ وَلَا جَائِرٌ فِيهِ مُتَجَاوِزٌ قَدْرَ الضَّرُورَةِ- فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ لِمِثْلِهِ لَا يُؤَاخِذُهُ عَلَى ذَلِكَ، رَحِيمٌ بِهِ يَرْحَمُهُ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ.
الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْحِلُّ؛ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ بِسُنَنِ الْفِطْرَةِ وَآيَاتِ الْكِتَابِ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ هَذِهِ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا لِلنَّاسِ يَنْتَفِعُونَ بِهَا وَيُظْهِرُونَ أَسْرَارَ خَلْقِ اللهِ وَحِكَمِهِ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْمَحْظُورُ عَلَيْهِمْ هُوَ مَا يَضُرُّهُمْ. وَلَكِنَّ النَّاسَ لَا يَقِفُونَ عِنْدَ حُدُودِ الْفِطْرَةِ وَاتِّقَاءِ الْمَضَرَّةِ وَجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ، بَلْ دَأْبُهُمُ الْجِنَايَةُ عَلَى فِطْرَتِهِمْ، وَالتَّصَدِّي أَحْيَانًا لِفِعْلِ مَا يَضُرُّهُمْ وَتَرْكِ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَبَاحَتْ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ مِنَ الْخَبَائِثِ الضَّارَّةِ، وَحَرَّمَتْ عَلَى أَنْفُسِهَا بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْأَنْعَامِ بِأَوْهَامٍ بَاطِلَةٍ؛ كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَتِ الْحَاجَةُ قَاضِيَةً بِبَيَانِ مَا يُحِلُّهُ اللهُ مِمَّا حَرَّمُوهُ، بَعْدَ بَيَانِ مَا حَرَّمَهُ مِمَّا أَحَلُّوهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} إِلَخْ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}
الآية تبدأ بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} ونلحظ أن البداية فعل مبني للمجهول. على الرغم من أن الفاعل في التحريم واضح وهو الله. ولم يقتحم سبحانه على أحد، فالإنسان نفسه اشترك في العقد الإيماني مع ربِّه فألزمه سبحانه والعبد من جانبه التزم؛ لذلك يقول الحق: {حرمت}، حرمها سبحانه كإله وشاركه في ذلك العبد الذي آمن بالله إلها.
والميتة هي التي ذهبت منها الحياة أو خرجت منها الروح بدون نقض للبنية، أي ماتت حتف أنفها، فذهاب الحياة له طريقان: طريق هو الموت أي بدون نقض بنية، وطريق بنقض البنية؛ فعندما يخنق الإنسان كائنا آخر يمنع عنه النفس وفي هذا إزهاق للروح بنقض شيء في البنية؛ لأن التنفس أمر ضروري، وقد يزهق الإنسان روحا آخر يضربه بالرصاص؛ لأن الروح لا تحل إلا في جسد له مواصفات خاصة.
لكَن هناك جوارح يمكن أن تبقى الروح في الجسم دونها، والمثال على ذلك اليد إن قطعت، أما إن توقف قلب الإنسان فقد يشقون صدره ويدلكون هذا القلب فينبض مرة أخرى بشرط أن يكون المخ مازال حيا، وأقصى مدة لحياة المخ دون هواء سبع دقائق في حالات نادرة. فما أن يصاب المخ بالعطب حتى يحدث الموت. ولذلك عرف الأطباء الموت الإكلينيكي بأنه توقف المخ. إذن فهناك موت، وهناك قتل، وفي كليهما ذهاب للروح.
وفي الموت تذهب الروح أولًا، وفي القتل تذهب الروح بسبب نقض البنية. والميتة هي التي ذهبت منها الحياة بدون نقض البنية، ومن رحمة الله أن حرم الميتة؛ لأنها ماتت بسبب لا نراه في عضو من أعضائها، حتى لا نأكلها بدائها.
وكذلك حرم الدم، وهو السائل الذي يجري في الأوردة والشرايين ويعطي الجسم الدفء والحرارة وينقل الغذاء، وللدم مجالان في الجريان؛ فهو يحمل الفضلات من الكلى والرئة، وهناك دم نقي يحمل الغذاء، والأوعية الدموية بها لونان من الدم: دم فاسد ودم صالح. وعندما نأخذ هذا الدم قد يكون فيه النوع الصالح ويكون فيه أيضًا النوع الذي لم تخرج منه الشوائب التي في الكلى والرئة، ولذلك يسمونه الدم المسفوح، أي الجاري؛ وكانوا يأخذونه قديما ويملأون به أمعاء الذبائح ويقومون بشيه ويأكلونه.
وهناك دم غير فاسد، مثال ذلك الكبد، فهو قطعة متوحدة، وكذلك الطحال، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحلت لكم ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال».
إذن فالكبد والطحال مستثنيان من الدم، لكن إذا جئنا للدم المسفوح فهو حرام. والحكمة في تحليل السمك والجراد هي عدم وجود نفس سائلة بهما، فليس في لحمها دم سائل، وعندما نقطع سمكة كبيرة لا ينزل منها دم.
بل يوجد فقط عند الأغشية التي في الرأس ولا يوجد في شعيراته. وعندما يموت السمك ويؤكل فلا خطر منه، وكذلك الجراد.
ويأتي بعد ذلك في سلسلة المحرمات {وَلَحْمُ الخنزير}. ولا يقولن مؤمن: لماذا حرم الله لحم الخنزير؟ لقد ذهب العلم إلى كل مبحث ليعرف لماذا حرم الله الميتة وكذلك الدم حتى عرف العلماء أن الله لا يريد أن ينقل داء من حيوان ميت إلى الإنسان، وكذلك حرم الله الدم لأن به فضلات سامة «كالبولينا» وغيرها.
ولكل تحريم حكمة قد تكون ظاهرة، وقد تكون خافية. والقرآن قد نزل على رسول أمي في أمة أمية لا تعرف المسائل العلمية الشديدة التعقيد، وطبق المؤمنون الأوائل تعاليم القرآن لأن الله الذي آمنا به إلها حكيما هو قائلها، وهو يريد صيانة صنعته؛ وكل صانع من البشر يضع قواعد صيانة ما صنع. ولم نجد صانع أثاث- مثلا- يحطم دولاب ملابس، بل نجده باذلا الجهد ليجمل الصنعة، ومادام الله هو الذي خلقنا وآمنا به إلها؛ فلابد لنا أن ننفذ ما يأمرنا به، وأن نتجنب ما نهانا عنه، ولا يمنع ذلك أن نتلمس أسباب العلم، رغبة في ازدياد أسباب الإيمان بالله ومن أجل أن نرد على أي فضولي مجادل، على الرغم من أنه ليس من حق أحد أن يجادل في دين الله؛ لأن الذي يرغب في الجدال فليجادل في القمة أولًا؛ وهي وجود الله، وفي البلاغ عن الله بواسطة الرسول؛ فإن اقتنع، فعليه أن يطبق ما قاله الله. فالدين لا يمكن أن نبحثه من أذنابه، ولكن يبحث الدين من قمته. ونحن ننفذ أوامر الله. ولذلك نجد أول حكم يأتي لم يقل الحق فيه: يا أيها الناس كتب عليكم كذا، ولكن سبحانه يقول: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} أي يا من آمنت بي خذ الحكم مني.
وأكرر المثل الذي ضربته سابقًا: أثمن ما عند الإنسان صحته، فإذا تعرضت صحته للاختلال فهو يدرس الأسباب؛ إن كان يرهقه الطعام يختار طبيبا على درجة علم عالية في الجهاز الهضمي، ويكتب الطبيب الدواء، ولا يقول المريض للطبيب: أنا لن أتناول هذا الدواء إلا إذا قلت لي لماذا وماذا سيفعل هذا الدواء.
إذن فالعقل مهمته أن ينتهي إلى الطبيب الذي اقتنع به، وما كتبه الطبيب من تعاليم فعليك تنفيذها، وكذلك الإيمان بالله، فمادام الإنسان قد آمن بالله إلها فعليه أن ينفذ الأوامر في حركة الحياة ب «افعل» و«لا تفعل»، والمريض لا يناقش طبيبا، فكيف يناقش أي إنسان ربه: «لم كتبت علي هذا»؟
والطبيب من البشر قد يخطئ؛ وقد يتسبب في موت مريض، وعندما نشك في قدرة طبيب ما نستدعي عددًا من الأطباء لاستشارة كبيرة.
وننفذ أوامر الأطباء، ولا يجرؤ أحد أن يناقش الله سبحانه وتعالى بل نقول: كل أوامرك مطاعة.
إننا ننفذ أوامر الأطباء فكيف لا ننفذ أوامر الله؟ إن الإنسان يضع ثثقته في البشر الخطائين، ولا يمكن- إذن- أن تعلو على الثقة في رب السماء؛ لذلك فالعاقلون هم الذين أخذوا أوامر الله وطبقوها جون من مناقشة؛ لأن العقل كالمطية يوصل الإنسان إلى عتبة السلطان، ولكن لا يدخل معك عليه، وحين تسمع من الله فأنت تنفذ ما أمر به.
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير} وقد أثبتت التحليلات أن بلحم الخنزير دودة شريطية ودودة حلزونية وعددا آخر من الديدان التي لا يقهرها علاج.
والمحرمات من بعد ذلك {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} أي رفع الصوت به لغير الله كقولهم: باسم اللات والعزى عند ذبحه، ولا يقال عند ذبحه: «الله أكبر بسم الله»؛ لأن الإنسان منتفع في الكون الذي يعيش فيه بالأجناس التي طرأ عليها، لقد وجد الإنسان هذه الأجناس في انتظاره لتخدمه لأنه خليفة الله في الأرض، والحيوان له روح ولكنه يقل عن الإنسان بالتفكير، والنبات تحت الحيوان، والجماد أقل من النبات. وساعة يأخذ الإنسان خدمة هذه المسخرات، فعليه أن يذكر الخالق المنعم، وعندما يذبح الإنسان حيوانا، فهو يذبحه بإذن الأكبر من الإنسان والحيوان والكون كله، يذبحه باسم الخالق.
إن هناك من ينظر إلى اللحم قائلًا: أنا لا آكل لحم الحيوانات لأني لا أحب الذبح للحيوان شفقة ورحمة، لكن آكل النبات. ونقول: لو أدركت ما في النبات من حياة أكنت تمتنع عن أكله؟ لقد ثبت في عصرنا أن للنبات حياة، بل وللجماد حياة أيضًا؛ لأنك عندما تفتت حصوة من الصوان أو أي نوع من الأحجار، فأنت تعاند بدقات المطرقة ما في تلك الحصوة من تعانق الجزيئات المتماسكة، وقد تفعل ذلك وأنت لا تدري أن فيها حياة. {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]
والصالحون من عباد الله يعرفون ذلك ويديرون لأعمالهم وتعاملهم مع ما سواهم من المخلوقات جميعا- حيوان أو جماد- على أنها مسبّحة لذلك لا يمتهنون الأشياء ولا يحتقرونها مهما دقت وحقرت وإنما يتلطفون معها حتى لو ذبحوا حيوانا فإنهم يرحمون ذلك الحيوان فلا يشحذون ولا يسنون السكين أمامه ولا يذبحون حيوانا أمام حيوان آخر فضلا على أنهم يطعمون ويسقون ما يرديون ذبحه لأنهم يعلمون أنه مسبح ولكنهم فعلوا فيه ما فعلوا لأن الله أباح لهم ذلك ليستديموا حياتهم بأكله فهم أهل تكليف من الله، أما ما عداهم فهم أهل تسخير.
{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} تشرح لنا أن الحق هو الذي حلل لنا أن نأكل من الذي له حس وحركة، كالحيوان الذي يتطامن للإنسان فيذبحه، ولابد للإنسان أن يعرف الشكر لواهب النعمة، ف «بسم الله الله أكبر» تؤكد أنك لم تذبحه إلا باسم من أحله لك.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71-72]
إذن فالأكل من ضمن التذليل، وعندما تذبح الحيوان لابد أن تذكر من ذلل لك ذلك. ويحرم الحق أكل المنخنقة، أي الحيوان الذي مات خنقًا؛ لأن قوام الحياة ثلاثة؛ طعام، شراب، هواء، وهذا من حكمة الخالق الذي خلق الصنعة ورتب الأمر حسب الأهم والمهم، فالإنسان قد يصبر على الجوع إلى ثلاثين يومًا؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى قدر لك- أيها الإنسان- ظروف الأغيار، فجعل في جسمك مخزونا لزمن قد تجوع فيه، وجعل للإنسان شهوة إلى الطعام، وغالبا لا يأكل الإنسان ليسد الرمق فقط، ولكن بشهوة في الأكل.